الشك واليقين
نشهد ليل نهار , على الفضائيات وبقية وسائل التواصل الاجتماعي , جملة من الأخبار , يشيب منها الولدان ,
وتدمع لها العينان , ويعجز لفظاعتها اللسان , وتغشانا جرّاءها الحيرة , فينتهك قلعة توحيدنا التشكيك ,
وتستنهضنا الغيرة , لكن أوصالنا قد بترها التردّد والتفكير .
رأينا الأطفال يذبحون , والشيوخ يعذّبون و يقتلون , ولا يحفظ للنّساء أي ستر , وتصير أمنية الواحدة منهن
قبرا !
وبينما تلّفنا قلّة الحيلة , و يخنقنا الضعف , يدور في أذهاننا هذا السؤال المخيف : لماذا يا رب ؟ , أين الحكمة يا
الله ؟ , ثم تمتد يد المستنكر علينا , ويوقظنا بكلماته , أفي الله شك ؟ !, فننتبه ونجيب : كلا , أبدا , حاشا لله قيوم
السماوات و الأرض , لكننا نريد أن تطمئن قلوبنا , وتشفى من شكّها صدورها , و تنزع الريبة من عقولنا ,
فكيف السبيل إلى مطلبنا ؟ , هاتوا برهانكم وأنقذونا من دوامتنا ! , وكيف نقنع من وصل بهم الأمر إلى
التشكيك بربنا وخالقنا , بسبب عدم إدراكهم للحكمة مما يجري لنا و لأمتنا ؟ ! , الموقف ليس يسيرا و الخوض
فيه سيكون عسيرا .
أحب أن أبدأ بقصة تقرّب المقصود , و تسهّل علينا تحليله . ذهب رجل إلى الحلاق ليقصّ شعر رأسه , ويهذّب
لحيته , و ما إن بدأ الحلاق بمزاولة عمله حتى صار ينتقل من حديث إلى حديث , و من موضوع إلى موضوع
ووصل إلى الكلام عن وجود الله تعالى . قال الحلاق : " أنا لا أؤمن بوجود الله " . استفهمه الزبون :" ولماذا
تقول ذلك ؟! " , أجاب الحلاق : يكفي أن تخرج إلى الشارع وتراقب الناس , لتدرك أن الله غير موجود ! , قل
لي إذا كان الله موجودا , فلماذا يسمح بهذه الأعداد الغفيرة من الأطفال المشرّدين و المقهورين ؟! , ولماذا ترى
أناسا مرضى , وشيوخا معذّبين ؟! , أنا لا أتصور كيف يسمح إله بمثل هذه الآلام و الأوجاع ! " . فكّر الزّبون
للحظات ثمّ لاذ بصمت عميق ولم يردّ على الحلّاق , حتى لا يحتد النقاش ويخرج الأمر عن السيطرة , و
يصل إلى ما لا تحمده عقباه ! .
وبعد أن أنهى الحلّاق عمله و أخذ حسابه , خرج الزّبون من المحلّ فشاهد في الشارع رجلا طويل شعر الرّأس
كأنه ليفة , كثّ اللّحية , قذر المنظر , أشعث أغبر , فرجع من فوره إلى صالون الحلاقة وقال لصاحبه و هو
يشدّه إلى الخارج : " هل تعلم أنه لا يوجد حلّاق أبدا ؟! " , أجابه الحلّاق متعجّبا : " كيف تقول ذلك و أنا ....
ماذا أفعل هنا ؟! ألم أحلّق لك قبل دقائق ؟! " , قال الزّبون :" لو كان هناك حلّاق لما وجد هذا الرجل الهيئة و
أمثاله يتجولون في الطرقات ! " , علّق الحلّاق على كلام الزّبون موضّحا : " بل الحلّاقون موجودون وإنّما
حدث مثل الذي رأيته عندما لا يأتي هؤلاء إليّ لكي أحلّق لهم ! " , هزّ الزّبون رأسه واستأنف الحديث : " و
هذا التفسير ينطبق تماما على كلامك المتعلّق بوجود الله , فالله تعالى موجود ولكن يحدث الذي ذكرته من المآسي
عندما يعرض الناس عن ربّهم , ولا يهتدون بتعاليمه في حياتهم و يعارضون مشيئته , و يحيدون عن سبيله ...
ولا يكون اللجوء إليه بالدعاء فحسب , بل يكون بحسن الظن وجميل التوكّل و الاطمئنان لمقاديره في خلقه ! "
إن الله تعالى يريد أن اختبارنا ليعرف أسرارنا و يمتحن إيماننا , و بالتوكّل يستقر إسلامنا , وتسكن أرواحنا ,
و تطمئن قلوبنا , فالتوكل هو نفي الشكوك , و التفويض إلى ملك الملوك , وهو الثقة بالله , و السكون إليه ,
والاسترسال مع الله وفق ما يريد . و حسبنا قبل ذلك وبعده قوله جلّ من قائل : " إِنَّ الله يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ " .
فكل شيء عسير يصبح بالتوكل على الله يسير , و توكل على الله و تفاءل فكل شيء يفنى وهو يبقى .
" وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين "
لا يوجد تعليقات