كأنها هي..
يوميات طالبة 02... قصة قصيرة
كأنها هي..
- يحي داودي
لا أجدُ في المتوسّطةِ ما يُثيرُ الفضول..، الساعاتُ مُكرّرةٌ والأيّامُ متشابهةٌ، والأحداثُ يُحاكي بعضُها بعضًا.. أشعرُ وأنا هناك أنّ الزمنَ قد توقّف، وأنّ الوقتَ يَمضي مُتلكِّئا، وأنّ التاريخ قد كفّ عن تدوين حركةِ البشر من تمامِ الثامنة إلى ساعة الانصراف؛ حينها فقط يستأنف التاريخ حركتَه والزمنُ جريانَه..
ها أنا ذا خارجةٌ كعادتي من منزلِنا صباحًا، أجرُّ قدميَّ ورائي بصعوبة.. رَمَيْتُ بمحفظتي خلفَ ظهري، وَهِمْتُ على وجهي شاردةً أقصدُ المتوسطةَ.. لن أخشى على نفسي الضياعَ طبعا، فَقَدَمَايَ تحفظان الطريق جيّدا بفعلِ العادةِ والتكرار..
المُلْفِتُ أنّي حينما اقتربت من المتوسطة، إذا بالمديرِ منتصبا عند الباب، يوزّعُ تحايا الصباحِ على الطالبات الوافدات، بنظرات فاحصةٍ وابتسامةٍ واسعةٍ، رسمَها على وجهه.. تَنِمُّ عن بداية نهار حافلٍ.. تعجّبْت من هذا الفعلِ الدخيل؛.. لكنّي تفاءلت خيرا، وقُلت لعلّها علامةُ تغيير، أو إِرْهاصٌ لمرحلة جديدة بديلة..
تأمّلْت وجوهَ زميلاتي وأنا أصعدُ الدُّرُجَ إلى الطابَقِ الرئيسيِّ للمدرسة –حيث الأقسامُ والمكاتبُ الإداريّة- فوجدتها تَطْفحُ بشرا وتوقا على غير عادتها..، عندها قرّرت أن أُغيّر من ملامح وجهي المتجهمةِ الخاملة، وتصنّعْت انبساطا وسرورا مُتكلّفا حتّى لا أبدوَ شاذّةً بين البقيّة..، وكان كلّما مَرَرْنا بأستاذ أو أستاذة أو مسؤول إداريٍّ في ساحة المدرسة قُبَيْلَ الدخول إلى الأقسام، حَفَلَ بنا وغَمَرَنا بفيضٍ من نظرةٍ وإيماءةٍ وابتسامةٍ مُفْعَمَةٍ بالرضا والحُبور، حتى تَوهّمْت أنّ أحدَ العِيدَيْن قد حلّ دون أن أدري..
أحسستُ بأشياءَ غريبةٍ تحدثُ، وأنَّ روحا غيرَ مألوفةٍ تسري في المدرسة بمن فيها..، فكيف بوجوه عابسةٍ مُذْ عرفتُها، تَنْشَرِحُ فجأة في لحظة من الزمن؟!! التقطتُ نفسا عميقا، ورُحْتُ أُعيد غسلَ وجهي بحفنة من ماء باردٍ، لِأنتعشَ وأستوعبَ الأمر.
اِنتبهت ذاهلةً وأنا في الساحة إلى إطار ضخم يُزيّنُ باحةَ المدرسة.. يحملُ لوحةً فنّيّةً غاية في الجمال، تأمّلتُ اللوحةَ فإذا بها رجلٌ ذو هيبة، بِيَمينِه قنديلٌ مُضاء، ويشيرُ بشمالِه إلى طريق غامضةٍ؛ وفي زاوية أخرى من اللوحة، فتًى يتطلّعُ ليتسلّمَ القنديلَ من الرجل..
إنّها لوحةٌ مُلهمة !!.. هكذا ردَّدْتُ في نفسي.. فكّرت أنّ الرجلَ يرمزُ إلى المُعلّم، وأنّ الفتى يُمثّل التلميذَ، وأمّا الطريقُ المبهمةُ، فهي الحياةُ بِوجهيْها، والقنديلُ هو الوسيلةُ التي يحفظُ بها الإنسانُ توازنَه في الحياة التي لا مفرَّ من خوضِها. لكنْ.. كيفَ لمْ أُلاحظْ وجودَ هذه اللوحةِ من قبلُ؟! أمرٌ غريب..! ..أنا متأكدة أنّها لم تكنْ هنا بالأمس!!
دخلتُ وزميلاتي القسمَ، فصُعِقْتُ لتواجدِ الأستاذِ هناك قبلَنا! وهذا أمرٌ أشبهُ بهلال العيد الذي يظهرُ مرّةً كلَّ سنةٍ وبالكادِ نراه.. كانت الحياةُ تَنْضَحُ من عينيه بكلِّ معانيها.. وحيويّتُه وانفتاحُه على الدرس، وحركتُه بين الصفوف..؛ كلّ ذلك كان يهزُّنا، ويبعثَ فينا الرغبةَ والدافعيةَ.. وكأنّه صُمِّمَ وخُلِقَ ليكونَ معلّما..
مَرَّتْ الساعةُ تِلْوَ الساعة، والمادّةُ تِلْوَ المادّة، دون أن أشعرَ بثقل الوقت أو تَلَكُّئِه، وكلّما دخل علينا أستاذٌ أو أستاذةٌ أحسستُ معها بشيءٍ مختلفٍ.. هؤلاء الفرسانُ يقدّمون لنا شيئا أغلى من المعلومة وأَنْفَسَ من القواعد والقوانينِ والنظريّاتِ.. إنّهم يَمْنَحونَنا الثقةَ والحبَّ والأمانَ، يُلقِّنوننا كلَّ يوم دروسا في الصبر والضبط والنظام والكدح والمنطقِ العمليِّ.. إنّهم يَشْحذون هِممَنا ويُلهِبون حماسَنا ويُلهِمونَنا إلى مفاتيحَ نَخْتَرقُ بها حُجُبَ هذه الحياة. ..قُلْت مستغربةً مصدومةً كَمَنْ يفكّر بصوت مرتفعِ: لا.. لا لا.. لابُدّ أنّني أخطأت العنوان!
دقّقت النظرَ من حولي وفي كلِّ زاويةٍ، كَمَنْ يتحقّقُ من واقعيّةِ ما يرى ويسمعُ، فَفوجِئْتُ بالإدارة وطاقمِها كخليّة نحل، طَوَّافون علينا.. كُلٌّ يعرف وِجهتَه وحدودَ صلاحياتِه. أدركتُ ببساطةٍ ودون إعمال للفكر أنّهم يتحرّكون من خلفيّة فكريّة متينة واضحة مهضومة مُعْلَنَةٍ..، وِفْقَ نسقٍ تنظيميٍّ دقيقٍ، يَتَمَايَزون في الميدان بمنسوبِ الجهدِ الذي يبذلون، وذكاءِ التصرّفِ ضِمْنَ نسقٍ أُكْسِجينُه الحرّيّةُ، المسؤولة.. ونحن الطالباتُ نُدرك ذلك بالحدس الطفوليِّ المُرهفِ الرهيبِ، الذي لا يخيب..
..خلالَ الاستراحة وبينما كنت أحاول استيعابَ الأمر وفهمَ هذه الطفرة العجيبة، شَعُرت بالسعادة تغمرُني، ووَدِدْت لو أنّ ساعاتِ الدراسةِ تَمْتَدُّ وتَتَمَطَّى.. أحسسْتُ في لحظة أنّني أمتلكُ زِمامَ العالم بين يديّ، وأنّني أستطيعُ خرقَ الأرضِ أو أن أتّخذَ سُلّمًا في السماء.. ذلك أنّ البيئاتِ المفعمةَ بالحركة والديناميكيّةِ، والتي تُسيطرُ فيها الحرّيّةُ والانطلاقُ الواعي، والبعيدةَ كلَّ البعد عن زَحْمة الضوابطِ والممنوعاتِ والدروب المسدودةِ والآفاق الضيّقةِ والقولبةِ والنمطيّةِ.. في رَحمِ تلك البيئاتِ فقط، ينتعشُ العقلُ والروحُ وينتشيان، ويأتيهما الإلهامُ من كلِّ جانب..
دقّ جرسُ الخروجِ، وبينما أنا على السلالمِ نزولا، زَلّت قدمي، فَفَقَدْتُ توازني، ولم أشعُرْ بنفسي إلاّ وأنا أهوي على أرضِ غرفةِ النومِ الخاصّةِ بي وبإخوتي..، وَعيْتُ فأدركتُ أنّي وقعتُ من على سريري وأنا نائمةٌ..، وفهِمت أنّ أحداثَ المدرسةِ تلك،.. كانت أضغاثَ أحلام.. راقبتُ الساعة فإذا بها الثانيةُ وعشرون دقيقةً ليلا.. اِلْتَفَتُّ حولي حتّى أتأكّدَ ألاّ أحد من إخوتي قد شاهدَ لقطةَ سقوطي؛ لأنّه لو صادفَ ورأى أحدُهم اللقطةَ، لَصِرْتُ مسخرةَ المنزلِ.. تلوكُني ألسنتُهم قرابةَ الشهرِ أو يزيدُ..، جمعتُ أطرافي في خِفَّةٍ، وبسرعة البرق اِرْتَمَيْت كومةً تحت غطائي، واستغرقْتُ في نوم عميقٍ طامعةً في حلم شهيٍّ كالذي حَلُمت به قبلا..
..مرّتْ أيّامٌ قليلةٌ على ذلك حتّى جاءني والدي بِبُشرى قبولي طالبةً بمتوسّطةِ المنارِ للبنات..، فقُلْتُ أُحدّث نفسي: سبحان الله.. يا لَتَلاقُحِ الأقدار!! هل يا تُرى.. ذاك الحُلمُ، من تلك البشرى؟! أيمكن أن تكون المتوسّطةُ التي رأيتُها في الحُلم، هي نفسُها متوسّطةُ المنار؟! من يدري؟.. أرجو ذلك وأتمنّاه!!
لا يوجد تعليقات